كثيراً ما يتم وصف التكنولوجيات الجديدة على أنها وسائل حديثة للوصول إلى الحرية السياسية في السياقات الاستبدادية، إلاًّ أن هناك مفارقة لا يمكن تجاهلها مردُّها أن السلطات الحاكمة تعمد إلى استغلال نفس هذه التقنيات بما يؤدي إلى تقليص هامش حقوق المواطنين المعنيين، بل وقد يفضي إلى اشتداد شوكة القمع الاستهدافي.

مقدمة

أثارت تسريبات إدوارد سنودن جدلاً حاداً في الأوساط الديمقراطية الغربية حتى أفضت إلى تراجع كبير في المراقبة الحكومية. أما في الأنظمة السلطوية والديكتاتورية، حيث لا تعير الحكومات نفس الاهتمام لا للرأي العام ولا للمحاكم والحقوق المدنية، فقد زادت المراقبة الرقمية بشكل مطرد على مدى العقد الماضي.

في هذا السياق، يجادل الباحث شو شو، من قسم العلوم السياسية بجامعة ولاية بنسلفانيا، بأن الزيادة في المراقبة الرقمية تُبلور بشكل ساطع معضلة القمع مقابل الاستمالة، أي سياسة العصا والجزرة بمعنى آخر. فإذا كان القمع كفيلاً بإرضاخ المعارضة إلى ما ترتضيه النخبة الحاكمة باستعمال القوة والعنف، فإن خيار الاستمالة من جهته يوفر عدداً من الامتيازات لصالح مجموعة ضيقة نسبياً من المواطنين مقابل الحصول على الولاء السياسي. وحرصاً منهم على منع وقوع أي انشقاقات – ومن ثم تقليص خطر حدوث أي تمرد قد يزعزع استقرار النظام – يختار القادة جرعات متفاوتة تارةً من القمع وتارةً أخرى من الاستمالة، حسب تكاليف كل استراتيجية وحسب المكاسب التي تعدهم بها. غير أن الأنظمة الاستبدادية لا تملك معلومات دقيقة عن المشاعر المعادية للنظام التي تُخالج كل مواطن، وبالتالي لا يمكنها توزيع الموارد على أفضل وجه بين سياستي القمع والاستمالة من أجل منع التحركات الجماعية.

ويوضح الباحث في هذه المقالة بأن المراقبة الرقمية تمكن من ممارسة قمعٍ “استهدافي”، حيث أنه يستهدف فقط المعارضين الأكثر راديكالية. ونظراً لأن القمع يصبح أقل تكلفة، فإن الحكومات الاستبدادية ترى أن لا مصلحة كبرى لها في الاستثمار في نظام استمالة شامل (المنافع الاجتماعية وهِبات الأملاك العمومية). وبالتالي فإن المراقبة الرقمية الحكومية داخل هذه الأنظمة تزيد من حدة القمع الاستهدافي والوقائي (المضايقة والترهيب والسجن)، وتقلل بالمقابل من الاستمالة الشاملة.

وفي إطار إنجاز دراسته، أَولى الباحث اهتمامه لبرنامج المراقبة المسمى “الدرع الذهبي” الذي وضعته وزارة الأمن العام الصينية ابتداءً من عام 1998، وعمل الباحث على جمع البيانات من الكتاب السنوي للإحصائيات المالية للمدن والأقاليم الصينية من سنة 1995 إلى 2008، والتي توثق نفقات الأمن والأملاك العمومية والمنافع الاجتماعية لحكومات الأقاليم الصينية البالغ عددها 3000 إقليم، كما استخدم قاعدة البيانات الخاصة بالسجناء السياسيين في الصين التي وضعها الكونغرس الأمريكي (CECC-PPD)، والتي سجلت 4531 حالة احتجاز بين عامي 2006 و2017. هذه البيانات، من خلال توثيقها للطريقة التي تم بها تنفيذ المراحل المختلفة من برنامج “الدرع الذهبي” في مختلف الأقاليم الصينية، مكنته من تقدير تطور القمع الاستهدافي والاستمالة الشاملة خلال هذه الفترة.

(Golden Shield Project) مشروع “الدرع الذهبي”

في سنة 1998، اقترحت وزارة الأمن العام الصينية مشروع “الدرع الذهبي” – وهو عبارة عن نظام مراقبة رقمي – لتحسين كفاءة الشرطة. إن هدف هذا البرنامج، الذي له تداعيات كثيرة وتطلب تنفيذه وقتاً طويلاً، يكمن في الوصول إلى التعرف المنهجي على جميع المواطنين الصينيين، وتحديد تحركاتهم، والحصول على معلومات شخصية عنهم، ويكمن أيضاً في الإبلاغ عن أي شبهة بلبلة سياسية صادرة عن الإنترنت.

ونظراً لاستراتيجية الإطلاق التدريجي لبرنامج “الدرع الذهبي”، فقد اختلف الجدول الزمني لتفعيله من إقليم صيني إلى آخر، لذلك لم تكمل جميع الأقاليم تنفيذ البرنامج في نفس الوقت. ومن خلال استغلال الفروق الناتجة عن هذا الجدول الزمني المتفاوت، يصبح من الممكن قياس تأثير المراقبة الرقمية، مع مرور الوقت، على القمع الاستهدافي والاستمالة داخل هذه الأقاليم، اعتماداً على ما إذا كانت قد انتهت أم لم تنته من تنفيذ البرنامج في تاريخ معين.

وقد تضمنت المرحلة الأولى من المشروع، التي انطلقت سنة 2001، بالأساس إنشاء قواعد بيانات حول السكان وأنظمة تتبع الهوية وأدوات مراقبة الإنترنت. بينما ركزت المرحلة الثانية من المشروع، والتي انطلقت عام 2005، على تطوير أنظمة كاميرات المراقبة في الشوارع.

تحليل نفقات الأمن العام

بهدف قياس تطور حالة القمع بعد اعتماد “الدرع الذهبي”، يستند شو شو إلى مقياسين للقمع: من جهة، هناك ارتفاع الميزانية المخصصة لنفقات الأمن العام في 3000 إقليم في الصين؛ ومن جهة أخرى، تزايد عدد المعتقلين السياسيين داخل كل إقليم.

وفيما يخص الجوانب المتعلقة بالميزانية، يوضح الرسم البياني التالي أنه منذ 2006، أي السنة التي استُكملت فيها المرحلة الأولى من مشروع “الدرع الذهبي”، زادت الأقاليم ذات أنظمة المراقبة الشاملة من نفقات الأمن العام المحلي أكثر من نظيراتها التي لم تكن تملك أنظمة مراقبة شاملة، خاصة ما بين سنتي 2006 و2007.

ويتيح إجراء تحليل إحصائي أكثر عمقاً إمكانية التحديد الكمي الدقيق لزيادة النفقات الأمنية على مستوى كل إقليم. وفي هذه الحالة، زادت نفقات حكومات الأقاليم التي استكملت وضع برنامج “الدرع الذهبي” على الأمن العام بنسبة تراوحت بين 4% و12%، مقارنةً بالأقاليم التي لم تستكمل وضع النظام. وتبين هذه النتائج أن إتمام وضع “الدرع الذهبي” له تأثير موجب كبير على وتيرة تصعيد القمع المحلي، الذي يقاس من خلال الاستثمار الإضافي في الأمن العام.

وضعية السجناء السياسيين

فيما يتعلق بقياس القمع من خلال تغير عدد السجناء السياسيين، نلاحظ مرة أخرى وجود علاقة وثيقة بين وضع نظام المراقبة وارتفاع عدد المسجونين. وكما هو مُبَيَّن في الشكل 2، فإن الأقاليم التي استفادت من البرنامج الهادف إلى تعميم استعمال كاميرات المراقبة، والذي اكتمل وضعه في 2012، قد شهدت ارتفاعاً كبيراً في عدد السجناء السياسيين مقارنةً بباقي الأقاليم.

علاوةً على ذلك، تشير القياسات الأخرى التي أجراها الباحث إلى أن الأقاليم المجهزة بأنظمة كاميرات المراقبة المتطورة تعتقل 0.1 ناشطاً سياسياً أكثر من الأقاليم الأخرى. وبالنظر إلى أن متوسط ​​عدد السجناء في كل الأقاليم هو 0.13، فإن عدد السجناء السياسيين يناهز ضعف ما هو عليه في الأقاليم التي استفادت من برنامج كاميرات المراقبة (“الأقاليم المشمولة بالمشروع التجريبي”) مقارنةً بالأقاليم التي لم تستفد منه (“الأقاليم غير المشمولة بالمشروع التجريبي”).

وبالتالي، فقد أدى تفعيل “الدرع الذهبي” إلى زيادة القمع الاستهدافي الذي تمارسه الحكومات المحلية، كما تم قياسه من خلال التغيرات التي طرأت على نفقات الأمن العام المحلي وعدد السجناء السياسيين.

المراقبة لا تخدم خيار الاستمالة الشاملة

يرى الباحث أنه بحكم أن المراقبة تهدف إلى تحديد هوية المعارضين، فمن البديهي أن تؤدي إلى مزيد من القمع وإلى انحسار في رقعة إعادة التوزيع، ذلك أن القمع يعد وسيلة أقل تكلفة بالنسبة للنظام في سعيه للحفاظ على النظام الاجتماعي القائم. ولاختبار هذا الحل الوسط بين القمع والاستمالة، عمد شو شو إلى تحليل كيفية تأثير المراقبة على النفقات الأمنية ​​وعلى إعادة التوزيع.

ويُبين الباحث أن “الدرع الذهبي” قد مكن من تحقيق ادخارات كبيرة على مستوى نفقات الاستمالة. فبنهاية المرحلة الأولى من البرنامج، كان لدى الأقاليم المزودة بنظام مراقبة شامل نفقات أمنية تزيد في المتوسط ​​بنحو 29 مليون يوان عن الأقاليم التي لم تستكمل البرنامج. بالمقابل، كان الإنفاق على الحماية الاجتماعية والزراعة أقل بـ41 مليون يوان، مما وفر ما يناهز 12 مليون يوان.

خلاصة

إذا كانت تكنولوجيا المعلومات تزيد من هامش الحرية السياسية لأنها تساعد على نشر القيم الديمقراطية وتمكن المواطنين العاديين من التعبئة، فإن الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات تمنح كذلك الحكومات الاستبدادية إمكانيات جديدة لفرض السيطرة السياسية.

إن الطفرة السريعة التي عرفتها المراقبة الرقمية ينبغي أن تؤخذ تبعاتها بعين الاعتبار حينما نحاول فهم كيفية استخدام الأنظمة الديكتاتورية لوسائل القمع والاستمالة في سبيل التصدي لمخاطر الانتفاضات الشعبية وتعزيز استقرار النظام. هذا وتستخدم الحكومات الاستبدادية الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات لفرض الرقابة وقمع حرية التعبير في الفضاء الرقمي، ناهيك عن جمع المعلومات المتعلقة بالمواطنين ومراقبة السياسيين المحليين والتأثير على الرأي العام وتحديد هوية المتظاهرين والمعارضين السياسيين.

ومن الاستنتاجات المباشرة لما تناولته أطروحة الباحث، هو أنه من المرجح أن تؤدي التحسينات التي تطرأ على المعلومات الحكومية، في ظل تطور تقنيات المراقبة الرقمية، إلى مزيد من القمع (الاستهدافي) عوضاً عن المزيد من التنازلات السياسية. وبالتالي، فإن تحسين توصل الحكومات بالمعلومات من شأنه أن يؤدي إلى تدهور وضع المواطنين في الأنظمة السلطوية والديكتاتورية.

لمعرفة المزيد

American Journal of Political Science, 2020, https://doi.org/10.1111/ajps.12514