في ظل مكافحة فيروس “كورونا” المستجد (كوفيد-19)، وأمام غياب لقاح ضده، هل تكمن مصلحة الدول في وضع تدابير تهدف إلى القضاء على الفيروس أو إلى التخفيف من وقعه؟ إن كلا الخيارين ينطويان على استراتيجية معينة وعلى تكلفة سوسيو-اقتصادية عالية نسبياً. ويأتي هذا المقال لتسليط الضوء على نتائج مساهمة 31 عضواً في “فريق الاستجابة” لكوفيد-19، التابع لجامعة “إمبريال كوليج” بلندن، بقيادة نيل فيرغيسون، مدير “معهد عبد اللطيف جميل لمكافحة الأمراض المزمنة والأوبئة والأزمات الطارئة”، ورئيس قسم علم الأوبئة والأمراض المعدية في كلية الصحة العامة، ونائب عميد التطوير الأكاديمي بكلية الطب، وكلها مؤسسات تابعة لجامعة “إمبريال كوليج” بلندن.

مقدمة

إن آخر مرة كان على العالم التحرك فيها لمواجهة وضع من هذا الحجم، ودون التوفر على لقاح، تعود إلى جائحة إنفلونزا “H1N1” في 1918-1919 (التي أُطلق عليها اسم “الإنفلونزا الإسبانية”). وقد تم آنذاك القيام بتدخلات غير دوائية، أي اتخاذ إجراءات تهدف إلى تقليص انتقال الفيروس من خلال تقليص معدل الاتصال بين الأشخاص. وقد تضمنت هذه الإجراءات مثلاً إغلاق المدارس والكنائس والحانات وغيرها من الأماكن. لاحقاً، ثبت أن المدن التي قامت بهذه الإجراءات في أسرع وقت قد نجحت في الحد بشكل كبير جداً من انتشار العدوى وتقليص عدد الوفيات.

في هذا المقال، يتناول الباحثون تداعيات استراتيجيتين معينتين على النظام الصحي: القضاء على الانتشار (الخيار 1) أو التخفيف من وقعه (الخيار 2). كما أن هناك خياراً ثالثاً ينطوي على المناوبة بين إجراءات التدخل، لكننا سنتطرق هنا إلى الخيارين الرئيسيين في الدراسة فقط.

 ومن خلال نمذجة الأثر الوبائي لمختلف التدخلات غير الدوائية المترتبة عن كل خيار، توجه مخرجات هذه الدراسة عملية صياغة السياسات الصحية في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية إضافةً إلى تلك الخاصة بعدد من الدول الأخرى.

انتشار الفيروس وارتفاع الطلب على العلاج

بداية، ما الذي سيحدث في حال غياب تدخل السلطات العمومية؟
في حال غياب التدخلات غير الدوائية أو التغيرات العفوية في سلوك الفرد، يُتوقع أن نصل إلى ذروة الوفيات بعد حوالي 3 أشهر (بين ماي ويونيو 2020). في مثل هذه السيناريوهات، يرتقب أن تصاب نسبة 81% من ساكنة بريطانيا والولايات المتحدة بالفيروس خلال فترة انتشاره. وبالتالي، في حال لم يتم اتخاذ أي إجراء، يتوقع أن يصل عدد الوفيات إلى 510000 في بريطانيا و2.2 مليون في الولايات المتحدة، وذلك بغض النظر عن آثار الأعباء الزائدة التي ستتحملها الأنظمة الصحية على باقي المرضى. وفي الواقع، في حال عدم السيطرة على الوباء، يتوقع الباحثون أنه من المحتمل أن تكون ذروة الطلب على خدمات العناية المركزة أكبر بـ 30 مرة من الطاقة الاستيعابية القصوى سواء في بريطانيا أو الولايات المتحدة.

سياسة القضاء على الفيروس مقابل سياسة التخفيف من وقعه

في خضم مواجهتها لـ”كوفيد-19″ يمكن للسلطات العمومية حالياً اتباع استراتيجيتين ترتكزان على التحكم في معدل التكاثر “R0” الذي يشير إلى متوسط عدد الأشخاص الذين انتقلت إليهم العدوى من شخص مصاب. وفي حال غياب أي تدخل، يقدر الباحثون أن يصل هذا المعدل إلى 2.4 في المتوسط، ومن هنا نصل إلى خيارين رئيسيين من منظور السياسة العامة:

الخيار 1: وهو القضاء على الفيروس، بحيث يمكن للسلطات العمومية أن تقرر أن الهدف هو تقليص هذا المعدل إلى ما دون 1. هذا يعني أن الشخص المصاب سينقل الفيروس لأقل من شخص واحد في المتوسط، وأن الوباء سينتهي بشفاء (أو وفاة) آخر شخص مصاب. وهكذا فإن السياسة القائمة على هذا الهدف هي سياسة القضاء على الفيروس، وهي تفترض تدخلات غير دوائية دقيقة، كما أنها تنطوي على تكلفة سوسيو-اقتصادية كبيرة جداً.

الخيار 2: وهو التخفيف من وقع الفيروس ويتجلى الهدف منه في تقليص معدل التكاثر الطبيعي للفيروس، وذلك من أجل إبطاء انتشاره وتمكين النظام الصحي من علاج المرضى في انتظار اكتشاف اللقاح. في هذا السيناريو، يظل معدل التكاثر أكبر من 1، لكن يتم إبطاء الوباء بشكل يكفي لربح الوقت وتقليل عدد المرضى وتوزيعهم على مدة زمنية أطول. هنا تكون التدخلات غير الدوائية أقل صرامة مقارنةً بالخيار 1، كما أن تكلفتها – الاقتصادية خاصة – تكون أقل، غير أن الشكوك حول نجاحها من الناحية الصحية تكون أكبر.

وبالتالي فإن للاستراتيجيتين تداعيات سوسيو-اقتصادية وصحية كبيرة ومتباينة. فخيار القضاء على الفيروس، وإن نجح حتى اللحظة في الصين وكوريا الجنوبية (جدير بالذكر أنه قد صاحبته إجراءات أكثر مما تمت الإشارة إليه هنا، من قبيل تكثيف الاختبارات وغيرها)، فإنه ينطوي على تكاليف اجتماعية واقتصادية هائلة يمكن أن يكون لها أثر كبير على الصحة والرفاه على المديين القريب والبعيد. ويكمن التحدي الرئيسي أمام هذا الخيار في أنه يستوجب مواصلة التدخلات غير الدوائية الصارمة مهما طالت فترة انتشار الفيروس بين صفوف الساكنة، أو إلى حين اكتشاف اللقاح. وفيما يتعلق بـ”كوفيد-19″، ينبغي انتظار ما يتراوح بين 12 و18 شهراً قبل توفر اللقاح، ناهيك عن غياب ما يضمن الفعالية المرجوة لهذه اللقاحات الأولية.

وفي الخيار 2، يتم التعويل على مناعة الساكنة على أساس أنها ستصبح أقوى مع استمرار الوباء، وهو ما يُفترض به أن يؤدي إلى تراجع سريع في عدد الإصابات الجديدة وانخفاض في انتقال العدوى إلى مستويات دنيا. إلا أن خيار التخفيف من وقع الفيروس لن يمكن من توفير الحماية الكاملة للفئات المعرضة لخطره ومضاعفاته؛ وبالتالي قد تكون أعداد الوفيات الناجمة عنه مرتفعة لفترة طويلة نسبياً.

وعليه فإن الوضع يفرض مفاضلة بين التكاليف السوسيو-اقتصادية والتكاليف الصحية، وبين سياسة تهدف إلى وقف انتشار الفيروس (الخيار 1)، وأخرى أقل صرامة في بعض الجوانب تهدف إلى تلطيف أثره على النظام الصحي (الخيار 2).

أثر التدخلات غير الدوائية

لقد أسفرت عمليات النمذجة المنجزة في إطار الدراسة على خمسة تدخلات غير دوائية ممكنة، سواء بطرق فردية أو توليفية، والتي تتوقف صرامتها على مدى تفشي الفيروس:

  • العزل المنزلي لمدة 7 أيام بالنسبة للأشخاص الذين يعلمون أنهم أصيبوا بالفيروس؛
  • الحجر الصحي الطوعي لمدة 14 يوماً بالنسبة للأشخاص الذين يعيشون تحت سقف واحد مع المريض المعلن عن إصابته؛
  • التباعد الاجتماعي بالنسبة للأشخاص الذين تتجاوز أعمارهم السبعين سنة؛
  • التباعد الاجتماعي المعمم على كافة الساكنة، أي التقليل من أي نوع من الاتصال خارج المنزل؛
  • إغلاق جميع المدارس ومعظم الجامعات.

في حال اعتماد سياسة التخفيف (الخيار 2)، ينبغي أن تجمع التدخلات غير الدوائية بين العزل المنزلي للحالات المشتبه فيها والحجر الصحي في المنازل بالنسبة للأشخاص المتعايشين مع الحالات المشتبه فيها في منزل واحد والتباعد الاجتماعي بالنسبة للأشخاص المسنين والأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بأمراض خطيرة.

يمكن لهذه التدابير خفض الطلب على العناية المركزة بمعدل الثلثين، فيما ستقلص من عدد الوفيات إلى النصف. غير أنه من المرجح أن يتسبب الوباء المخفف الذي ستسفر عنه هذه التدابير مع مرور الوقت في مئات الآلاف من الوفيات، كما سيعرض الأنظمة الصحية (خاصة وحدات العناية المركزة) لأعباء زائدة مراراً وتكراراً. ويتعين أن تأخذ استراتيجية التخفيف المثلى بعين الاعتبار أن الطلب على خدمات العناية المركزة سيكون أكبر بثمان مرات على الأقل من طاقتها الاستيعابية. وبالتالي، نظراً إلى أنه من غير المرجح أن يكون تخفيف الوقع خياراً ناجعاً لا ينطوي على إثقال كاهل أنظمة الصحة، فإن خيار القضاء على الفيروس ضروري على الأرجح في البلدان القادرة على وضع الضوابط المشددة اللازمة لذلك.

الشكل 1: سيناريوهات استراتيجية التخفيف من وقع الفيروس في بريطانيا تبين الاحتياجات المتعلقة بأسرَّة العناية المركزة.

قراءة: إن استراتيجية التخفيف التي تجمع بين عزل المرضى والحجر الصحي للأسر والتباعد الاجتماعي للأشخاص الذين يفوق سنهم 70 سنة (المنحنى الأزرق) تسمح، عند بلوغ الوباء ذروته، بتقليص الحاجة إلى أسرَّة العناية المركزة إلى النصف، مقارنةً باستراتيجية تفرض فقط إغلاق المدارس والجامعات (المنحنى الأخضر).

وبالتالي، تشير الدراسة إلى أن القضاء على الفيروس يبقى الخيار الأجدى فيما يتعلق بالسياسة الصحية بالنسبة للبلدان القادرة على القيام بذلك. وفي السياق الذي تتناوله الدراسة (المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية)، تفيد النماذج بأن أكبر انخفاض في معدل التكاثر يتحقق من خلال الجمع بين أربعة تدابير من أصل خمسة: التباعد الاجتماعي المعمم على الساكنة، وعزل المصابين بالمنازل، والحجر الصحي بالنسبة لأفراد أسرهم، إضافة إلى إغلاق المدارس والجامعات. وقد تؤدي هذه السياسة إلى تقليل الحاجة إلى العناية المركزة بمعدل ثلاث مرات، وتضمن بالتالي أن يكون الطلب متناسباً أكثر مع عدد الأَسرَّة المتوفرة في المستشفيات. ومن خلال الجمع بين هذه التدابير، قد تتراجع نسبة الوفيات بمرتين تقريباً.

بيد أن التحدي الرئيسي أمام هذا الخيار يتمثل في الإبقاء على التدخلات غير الدوائية طيلة المدة اللازمة إلى أن يتم اكتشاف اللقاح، حيث من المتوقع أن يعاود الفيروس انتشاره بسرعة إذا ما تم تخفيف الضوابط المذكورة. بالمقابل، قد تتغير التدابير المستخدمة للقضاء عليه مع مرور الوقت في ظل تذبذب عدد الإصابات. فعلى سبيل المثال، يمكن جعل التباعد الاجتماعي أكثر مرونة، ومن ثم تعزيزه بشكل متقطع حسب ارتفاع عدد الحالات أو انخفاضه. الإشكال الآخر يكمن في أن تجربتي الصين وكوريا الجنوبية قد أظهرتا أن القضاء على الوباء ممكن على المدى القريب، ولكن يبقى أن نرى ما إذا كان ذلك ممكناً على المدى البعيد، نظراً لكون التكاليف الاجتماعية والاقتصادية لتدابير القضاء على الفيروس مرتفعة إلى يومنا هذا. لذلك لا يمكن استبعاد عودة الفيروس في المستقبل.

كلمة طفرة

تشير ردة فعل السلطات المغربية الحازمة إزاء الأزمة الصحية إلى أن ما وقع عليه الاختيار هو خيار القضاء على الفيروس. والحال أن التدابير المعلن عنها من قبل الحكومة تندرج في خانة التدخلات غير الدوائية المتصلة بهذا الخيار الاستراتيجي. غير أن هذا الخيار سيقتضي تغليب التدابير المشددة والمُربِكة على مدى فترة غير محددة، ومع نتيجة غير مضمونة.

هذا ويعتمد اختيار التدخلات غير الدوائية في النهاية على الجدوى النسبية لتنفيذها وفعاليتها المحتملة في السياقات الاجتماعية المختلفة. ولا يزال هناك غموض كبير بشأن رقعة انتقال هذا الفيروس والفعالية المحتملة للسياسات المختلفة، ومدى تبني الساكنة بشكل تلقائي للسلوكيات التي تحد من المخاطر. لذلك من الصعب الحسم في المدة المحتملة للتدابير التي ستكون ضرورية وفي مدى فعاليتها. بالإضافة إلى ذلك، هناك تدابير أخرى لا يغطيها نطاق الدراسة يجب أخذها بعين الاعتبار: فخطة تكثيف الاختبارات الطبية التي انتهجتها كوريا الجنوبية قد لعبت دوراً حاسماً في حصر الحالات وعزلها، وساهمت بالتالي في إبطاء تفشي الفيروس. وهذا يحيلنا على التساؤل حول مدى توفر هذه الاختبارات ومدى قدرة السلطات العمومية على تدبيرها وتفعيلها على نطاق واسع، وهما معطيان غير معروفان حالياً.

وأخيراً، إن نماذج هذه الدراسة ذات الأهمية البالغة في فهم قرارات الحكومات في زمن جائحة “كورونا” لا تنصرف على أوضاع البلدان النامية كما هو حال المغرب مثلاً، حيث تقتصر المدخلات الديمغرافية والسوسيو-اقتصادية على النماذج الإحصائية الخاصة بدول ذات مجتمعات واقتصادات مختلفة جداً.