في زمن البيانات الضخمة، قد يبدو أنه بات من السهل على الأوتوقراطيين مراقبة أفعال أعوانهم والاستجابة لتظلمات المواطنين. لكن هذا الأمر ليس مؤكداً!

إن قدرة النظام الحاكم على جمع المعلومات الموثوقة حول أفعال الأعوان من الرتب الأدنى شرط مسبق لاستمرار الأنظمة الاستبدادية ولفعالية حكامتها.

وبما أن أكثر أساليب المراقبة انتشاراً، من قبيل الشرطة السرية أو لجان المراقبة، لم تعد فعالة بما فيه الكفاية، فإن الأنظمة الاستبدادية تستخدم على نحو متزايد منصات الإنترنت لجمع الشكايات مباشرة من المواطنين، نظراً لأن هؤلاء أقل ميلاً لإخفاء المعلومات حول الممارسات السيئة.

وهكذا اعتمدت دول مثل الصين ومصر وباكستان والسعودية وسنغافورة وفيتنام هذا النظام، على أمل أن يسمح ذلك بتحسين مساءلة المنتخبين وترسيخ مشروعية النظام في نظر المواطنين.

وفيما يتعلق بالمعلومات، تجد الأنظمة الاستبدادية نفسها في قلب صدامين، الأول بين النظام والجمهور بشأن المعلومات المتاحة لهذا الأخير، والثاني بين نخب النظام، وبالتحديد بين السلطات العليا الراغبة في مراقبة الأعوان في المراتب الدنيا، وهؤلاء الذين يسعون إلى إخفاء مخالفاتهم.

وتهتم الدراسة التي أجرتها جينيفر بان وكايبينغ تشين، وهما باحثتان في قسم الاتصال بجامعة “ستانفورد” في كاليفورنيا، بالصدام الثاني، سيراً على نهج تيار بحثي جديد يبين الإكراهات التي تعترض قدرة الأوتوقراطيين على جمع معلومات موثوقة حول أعوان النظام في العصر الرقمي.

وبفضل اطلاعهما بصورة استثنائية على اتصالات داخلية بين مستويين حكوميين: ولاية في جنوب الصين (يشار إليها في الدراسة بالولاية (J)) والمستوى الذي يعلوها، وهو مستوى المقاطعة، تبين الباحثتان أنه على الرغم من وجود منصات على الإنترنت، لا تصل كافة الشكايات إلى الحكومة المركزية.

وقد حددت الباحثتان 643 تقريراً خاصة بتتبع “المزاج السائد” على الإنترنت، كان قد أصدرها قسم الدعاية في الولاية (J) وتم نقلها فيما بعد إلى المقاطعة. هذه التقارير تضمنت تفاصيل حول 3423 شكاية عبر الإنترنت أثارت غضب واستياء الجمهور في الفترة ما بين 2012 و2014. وقد استعانت الباحثتان في تحليلهما بالعديد من الأدوات: الترميز اليدوي، وأنظمة التحليل النصي الآلي، وأنظمة تمييز الكيانات المسماة، وذلك بهدف التفريق بين تقارير تتبع “المزاج السائد” على الإنترنت المرسلة من طرف سلطات المقاطعة وتلك التي يتم الاحتفاظ بها من أجل تناقلها داخل الولاية. هذا الأمر سمح لهما بمقارنة شكايات المواطنين عبر الإنترنت التي تم تبليغها إلى السلطات العليا بالشكايات التي اعتبرها جهاز المراقبة مهمة لكن لم يتم تبليغها إلى السلطات العليا.

هذه البيانات تُظهر أن احتمال إبلاغ رؤساء المقاطعات بالشكايات المتعلقة بفساد حكومة الولاية يقل مقارنة بالشكايات المتعلقة بمسائل الحكامة من قبيل جودة التعليم والتلوث. ويحدث التلاعب في المعلومات بشكل رئيسي من خلال إغفال الأفعال الموجبة للعقوبة بدلاً من الرقابة أو التزييف. حيث لا يتعلق الأمر هنا بالكذب بشأن الأداءات، وإنما بإغفال بعض الحقائق، وهو ما له أثر سياسي مباشر على رضا الجمهور وعلى الاستقرار ودعم النظام الحاكم.

وتتمثل فرضية الكاتبتين في أن طريقة وكثافة مراقبة/إخفاء المعلومات من طرف الأعوان ترتكزان على منطق الطموح السياسي والمحسوبية.

جمع المعلومات وإخفاؤها على جميع المستويات

يعتمد “الحزب الشيوعي الصيني”، وهو الحزب الوحيد في الصين، على آليات لإشراك المواطنين بشكل مباشر من أجل الحصول على المعلومات المتعلقة بتصرفات أعوانه. ويمكن للمواطنين تقديم شكاية بطرق متعددة: إما شخصياً لدى مكتب الرسائل والزيارات، أو عن طريق خط هاتفي ساخن، أو باستعمال مواقع إلكترونية يسيرها الحزب، أو من خلال تطبيقات معينة مخصصة للشكاوى. ونتيجة لهذه الجهود، ارتفع عدد الشكايات المقدمة بشكل كبير.

إن قسم الدعاية التابع للحزب الشيوعي الصيني مسؤول عن مراقبة “المزاج السائد” وشكايات المواطنين. وتملك هذه الهيئة حضوراً على جميع مستويات الحكومة (الحكومة المركزية والمقاطعة والولاية والإدارات)، بحيث أن كل مستوى مسؤول عن مراقبة الرأي العام في نطاق اختصاصه الجغرافي، بما في ذلك التقارير العلنية حول الفساد. كما أن قسم الدعاية مكلف أيضاً بنقل هذه المعلومة إلى أقسام الدعاية في المستويات الأعلى، من خلال ما نطلق عليه “تدرج التقارير من مستوى إلى آخر” من أجل أن يتمكن الحزب الشيوعي الصيني والحكومة الصينية من استعمال هذه المعلومة لتوجيه القرارات السياسية.

هذا وتتبع الإدارة مساراً تنازلياً: حيث يتولى المسؤول عن كل مستوى تعيين وترقية الأعضاء في المستوى الذي يليه. وتفرض هذه القاعدة على الأعضاء ذوي الطموحات السياسية الحفاظ على أداء جيد بشكل مستمر، لذلك فمن مصلحتهم إخفاء المشاكل عن رؤسائهم.

كما يوجد قسم مراقبة في كل مستوى من الحكومة، لكن العديد من التحيزات تمنع هذه الأقسام من العمل بفعالية. أولاً، لا تعتمد تعيينات وترقيات موظفي قسم الدعاية على المستوى الأعلى من الإدارة، بل على المسؤول عن نفس المستوى الحكومي (أي أنه إذا تعلق الأمر بقسم الدعاية في الولاية، يرفع الموظفون التقارير لرئيس الولاية، وليس لقسم الدعاية في المقاطعة، الذي يعتبر المستوى الأعلى). ولذلك يفضل المراقبون إرضاء رئيس نفس المستوى الذي ينتمون له بدلاً من رئيسهم في المستوى الأعلى. وثانياً، بما أن الشخص المراقَب والشخص المراقِب يعملان في المحيط نفسه، قد تكون هناك روابط اجتماعية وعلاقات قرابة قد تؤثر على الحيادية في العمل.

وفي كل مستوى من مستويات قسم الدعاية، هناك احتمال إخفاء معلومات معينة عن المستوى الأعلى. فإذا تم إجراء عمليات تفتيش، يصبح خطر اكتشاف هذا الإخفاء ضعيفاً، كون الأمر لا يتعلق بتزييف المعلومة بل بإغفالها. علاوة على ذلك، وحدها الحكومة المركزية تتوفر على الموارد اللازمة من أجل المراقبة. ومع ذلك، يظل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، مراقبة جميع الشكايات عبر الإنترنت، وبالتالي فهي لا تزال بحاجة إلى الاعتماد على تقارير هيئات المراقبة المحلية.

الطموح السياسي ومنطق المحسوبية يحرضان على الإخفاء

في ظل نظام استبدادي مثل النظام الصيني، يكون النظام السياسي هرمياً إلى حد كبير؛ فكل موظف خاضع لجهة عليا تكلفه بمهامه؛ ومن ثم يمكن للموظف ارتكاب ممارسات سيئة، مثل الفساد، من أجل إتمام هذه المهام. وقد تؤدي هذه الأفعال وانعكاساتها على الرأي العام، مثل عدم الرضا والاستياء، إلى فضائح قد تعرقل أو تدمر المسار السياسي لكبار موظفي الدولة. ومن هنا تنبع الرقابة التي يفرضها هؤلاء على مرؤوسيهم، الذين يسعون من جهتهم إلى إخفاء الممارسات التي قد تعرقل تقدمهم الوظيفي. وهذا يعني أنه على كل مستوى، تكون لدى كل موظف دوافع مضاعَفة لإخفاء أخطائه عن الرؤساء الذين يتحكمون في آفاقه المهنية وللحصول على معلومات كافية عن مرؤوسيهم حتى لا تتسبب ممارسات هؤلاء في تهديد تطلعاتهم المهنية الخاصة.

ومن خلال تجميع التقارير حسب الموضوع، تلاحظ الباحثتان في البداية بأنه يتم رفع أقل من نصف التقارير السلبية إلى الهياكل القيادية. علاوة على ذلك، يتم رفع الشكايات المتعلقة بالحكامة غير الرشيدة للولاية بنسبة أقل في كثير من الأحيان مقارنة بتلك المتعلقة بالمشاكل العامة (كالبيئة والتعليم وغيرها).

وفي خطوة ثانية، قامت الباحثتان بتجميع الشكايات المتعلقة بموضوع واحد (مثلاَ واقعة فساد ما)، وتبَين لهما بأنه قد تم رفع بعض منها، في حين لم يتم إرسال البعض الآخر. وقد مكنهما تحليل تراجعي لوجستي، مصحوب ببحث في السير الذاتية للأشخاص المعنيين، من إثبات وجود منطق المحسوبية: فعندما لا تجمع بين الأعوان المعنيين أي روابط بالأعوان العاملين في الولاية تصل نسبة التقارير إلى 50%، في حين تبلغ النسبة 38% عندما تكون هذه العلاقات قائمة.

ولغرض تحديد أثر طموح المنتخبين، أجرت الباحثتان تحليلاً لمكانة الأشخاص المعنيين، حيث اتضح أن الأعوان على مستوى الولاية لديهم طموحات أكبر من رؤسائهم، ويرجع ذلك إلى تبوئهم لمناصب أقل أهمية داخل هيئات الحزب. وعليه، فإن أعضاء الولاية لديهم مصلحة أكبر في إخفاء المعلومات مقارنة بمصلحة المقاطعات في فرض المراقبة. ونتيجة لذلك، فإن المعلومات المنقولة إلى الهياكل القيادية تكون غير مكتملة.

هذا ولا يتم أخذ العوامل التفسيرية الأخرى المحتملة (كأهمية المشكل وعدد الأشخاص المتضررين ووجود قنوات بديلة للمعلومات ونطاق الاختصاص) بعين الاعتبار لأنها غير مهمة من الناحية الإحصائية. وعلى نحو مماثل، تعد الوضعية السوسيو-اقتصادية للولاية (J) “عادية” نسبياً بالمقارنة مع المقاطعات الصينية الأخرى. وبالتالي فإن الشكايات لا ترفع بشكل كبير خاصة: 1) إذا كانت تتعلق بالولاية بصورة مباشرة وتعكس بذلك مصلحة سياسية، 2) في غياب أو وجود روابط قائمة على المحسوبية مع الأشخاص الذين وردت في حقهم الشكايات.

ومع ذلك، لا يتم إخفاء المعلومات إلا عندما يتحكم قسم الدعاية في المعلومة: أي أثناء النقل الداخلي للمعلومات بين المستويات، أو على مواقع الإنترنت التي يتحكم فيها. ويتم نشر ما يناهز 84% من الشكايات على المواقع التي لا يتمتع فيها القسم بأي سلطة رقابية؛ وبالتالي، ستتاح للمكتب المركزي الفرصة للكشف عن هذه الرقابة وفرض عقوبات عليها لأن المعلومات متاحة للعموم. ولكن بسبب حجم هذا المشروع والصعوبة المترتبة عنه، يواصل الحزب الشيوعي الصيني الاعتماد على التقارير المتحيزة التي تقدمها السلطات المحلية.

البيانات الضخمة تضعف سعة اطلاع السلطات الأوتوقراطية

تُظهر النتائج المقدمة هنا كيف أن مظالم وشكايات الشعب لا تصل دائماً بشكل موثوق إلى السلطات العليا، وتكشف عن العوائق التي تقف أمام المساءلة التصاعدية في الأنظمة الاستبدادية، حتى مع ارتفاع نسبة مشاركة المواطنين.

وإن لم يكن هناك تناقض بينها وبين النتائج التي تفيد بأن شكايات المواطنين عبر الإنترنت وغير ذلك يمكن أن تكشف عن الفساد الحكومي وتؤدي إلى معاقبة المسؤولين الحكوميين، فإن النتائج التي توصلت إليها الباحثتان تشير ببساطة إلى أن العديد من تقارير المواطنين حول الفساد قد لا تؤدي إلى فرض العقوبات، وربما تكون مشاركة المواطنين غير كافية من أجل القضاء على الفساد وتهيئة الظروف للمساءلة الكاملة.

وحتى وإن كانت الأنظمة الاستبدادية تُلم بالكثير من خلال مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي والبيانات الرقمية، وفقاً لآراء بعض الخبراء، فإن الوصول إلى البيانات على نطاق واسع لا يضمن إطلاقاً اطلاع الأوتوقراطيين على خبايا أعوان النظام.

لمعرفة المزيد

American Journal of Political Science, 2018. DOI : 10.1017/S0003055418000205