لماذا يختار الفاعلون الحكوميون الذي يواجهون ضغوط الحركات الاجتماعية إمَّا تجاهل هذه الحركات، أو الركوب عليها، أو قمعها؟

في حين أنه لا يمكن لعامل واحد أن يفسر هذه الخيارات – في ظل وجود إكراهات سياسية واقتصادية تحكم الخيارات المتاحة ودوافعها – تركز الدراسة التي أجرتها الباحثة و أستاذة العلوم السياسية في جامعة ويسكونسن – ماديسون إريكا س. سيمونز على عامل واحد بالخصوص، ألا وهو التصور الذي يتبناه الفاعلون الحكوميون إزاء المطالب التي يراهن عليها المتظاهرون. من هنا تتساءل سيمونز عن مدى استيعاب الحكومات للمطالب الموجهة إليها من قبل الحركات الاجتماعية، وعن أوجه الاختلاف أو التشابه بين التصورات الحكومية والتصورات التي يحملها المشاركون في الحركات الاجتماعية، وأخيراً عن مدى تأثير هذه التباينات على طبيعة التفاعلات بين الطرفين.

وللإجابة عن هذه التساؤلات، سنتطرق لحالتين من التعبئة الاجتماعية، إحداهما جاءت رداً على خوصصة المياه في بوليفيا، والثانية رداً على ارتفاع أسعار الذرة في المكسيك. ويبين هذا المقال كيف أن التباينات الكامنة في تصور السلطات العمومية للمطالب الاجتماعية تساهم في تفسير الأسباب التي أدت بصناع القرار في كل من البلدين إلى التعاطي بطريقة مختلفة تماماً مع الحراك الناشئ.

في يناير 2000، خرج الآلاف من سكان مدينة كوتشابامبا البوليفية إلى الشارع للاحتجاج على خوصصة إمدادات المياه التابعة لمدينتهم، إذ لم يحصل المشتري، وهو اتحاد يحمل اسم “أغواس ديل توناري”، على حقوق شبكة المياه البلدية لكوتشابامبا فحسب، بل حتى على حقوق المياه المستجمعة في الآبار الخاصة والأهلية. وعندما توصل السكان بفواتير الماء لشهر يناير، والتي تضاعف سعرها في بعض الحالات، اندلعت نزاعات شديدة حول الموارد المائية، مما أدى إلى انغلاق المدينة لعدة أيام. وقد برزت إثر ذلك حركة تضم مختلف الطبقات الاجتماعية والأعراق والمناطق الحضرية في الإقليم، ثم انتشرت الاحتجاجات في كافة أنحاء البلاد، ما دفع الحكومة إلى إعادة تأميم المياه بعد بضعة أشهر.

بعد ذلك بسبع سنوات وعلى بعد آلاف الكيلومترات من التراب البوليفي، احتشد المكسيكيون في يناير 2007 في ساحة “زوكالو” (ساحة الدستور) بالعاصمة مكسيكو للتعبير عن رفضهم لارتفاع أسعار الذرة ووارداتها. فقد ارتفع سعر رغيف “التورتيلا” بشكل ملحوظ في كافة أرجاء البلاد، حتى أنه تضاعف أربع مرات في بعض المناطق منذ صيف تلك الفترة. وتحت شعار “بدون الذرة، لا وجود للدولة”، وحَّد المستهلكون والمنتجون والطبقة المتوسطة والفلاحون صفوفهم للحصول على ذرة مكسيكسة بأسعار معقولة. حينها قرر الرئيس فيليبي كالديرون، المنتخب حديثاً، تحديد سقف الأسعار، ما أدى إلى تهدئة تلك التعبئة الواسعة النطاق.

في بدايتهما، كانت لحرب المياه في بوليفيا وحرب الذرة في المكسيك أوجه تشابه عديدة. ففي كلتا الحالتين، تشكلت حركات مقاومة واسعة احتجاجاً على تهديد يحيق بسلعة معيشية ضرورية. إلا أنه بالرغم من هذا التشابه الأولي، سرعان ما ذهبت الحركتان في مسارين مختلفين: ففي بوليفيا، اشتدت حدة المظاهرات، مما أدى إلى إغلاق منطقة كوتشابامبا ثم شل حركة البلد بعد ذلك لعدة أيام؛ بينما خفت وهج الحركة في المكسيك بسرعة.

ويزعم هذا المقال بأن رد الحكومة على الاحتجاجات يشكل الفارق الرئيسي بالنسبة لمآل التعبئة الشعبية. فحين كان ممثلو الحكومة مُقدِّرين للقيمة الرمزية للمطالب الاجتماعية، فإنهم اتخذوا إجراءات سريعة لكبح جماح المقاومة. وعلى العكس، عندما لم يستوعب المسؤولون الأهمية الرمزية التي يوليها المتظاهرون لهذه المطالب فإنهم استبعدوا إمكانية حدوث تعبئة واسعة النطاق، الأمر الذي حد من قدرتهم على التصرف بفعالية، ونتج عنه تطور كبير في مآل الحراك.

ومن أجل إبراز ذلك، أجرت إريكا سيمونز، أستاذة العلوم السياسية بجامعة “ويسكونسن – ماديسون” أعمالاً ميدانية في بوليفيا خلال صيف وخريف 2008 وشتاء 2010، وفي المكسيك خلال شتاء وربيع وصيف 2009. وقد شملت أبحاثها في كلا البلدين دراسة إثنولوجية ميدانية، تضمنت أزيد من 200 لقاء مفتوح وشبه منظم، وقراءات مقارنة لنصوص تم إصدارها قبل وأثناء كل تعبئة، بالإضافة إلى بحث تاريخي مبني على تحليل الوثائق المكتوبة والصحف الإقليمية والوطنية، ووثائق استمدتها من مصادرها الأولية (بما فيها تلك التي أصدرتها الجهات المنظِّمة للحراك والفاعلون الحكوميون)، فضلاً عن أعمال أكاديمية.

مفاهيم مختلفة حول المياه كانت السبب وراء التوتر الاجتماعي

إن الإعلان عن إبرام الحكومة لعقد خوصصة إمدادات المياه التابعة لمدينة كوتشابامبا أشعل فتيل موجة واسعة من الاحتجاجات في المدينة، حيث إن السكان قد رأوا في هذه الخطوة انتهاكاً لحق أساسي. وقد نظم بعض من الساكنة احتجاجات وعطلوا أماكن مختلفة من المدينة.

فمنذ البداية، قللت الحكومة من أهمية هذه التعبئة وآثرت تجاهلها، متصورة بأنها ستبقى في “الخلفية” وأنه لن يكون لها أي تأثير على تفعيل بنود العقد. غير أن الاحتجاجات استمرت في الارتفاع، فالماء بالنسبة لسكان مدينة كوتشابامبا ليس فقط وسيلة عيش أساسية، بل إن عملية الري والتاريخ الزراعي للمدينة بالنسبة للأهالي يجعلان من الماء مكوناً جوهرياً للهوية المحلية والإقليمية. حيث إن سكان كوتشابامبا قد شكلوا تعاونيات خاصة بالمياه من أجل حفر آبارهم وأنابيبهم الخاصة وعملوا بشكل جماعي على حماية احتياجاتهم من الماء من خلال إحداث مجتمعات محلية يحتل فيها الماء مكانة مركزية.

ويبدو أن هناك هوة بين التصورات المحلية لقيمة الماء في الحياة والمفاهيم التي ترى المياه على أنها سلعة قابلة للتسويق وقابلة للتداول لتحقيق الربح. وفي اللحظات الحاسمة التي كان من الممكن خلالها أن يشرح سكان كوتشابامبا موقفهم القائل بأن العقد الامتيازي المبرم يهدد تصورهم للعيش الجماعي، لم يتم إشراك سوى عدد قليل منهم في عملية صنع القرار. ويشير هربرت مولر، الذي كان يشغل حينذاك منصب وزير المالية في الحكومة البوليفية، أن حكومة بلاده قد فشلت في “إضفاء الطابع الاجتماعي على العملية”.

لقد كنا نعتقد أن العقلانية الاقتصادية ستكون كافية لإقناع الشعب.

ويكشف هذا التعليق على وجود سوء فهم أساسي لعلاقة سكان كوتشابامبا بالماء. فمن خلال استبعاد الآراء المحلية، لم تترك الجهات المسؤولة عن وضع السياسات (ولاحقاً عن الرد على التعبئة الاجتماعية التي برزت) أي مجال لفهم هذه العلاقات وتقييم ما يحمله الماء من دلالات في كوتشابامبا.

ونتيجة لذلك، لم يتوقع المسؤولون العموميون المعنيون الحجم أو النطاق المحتمل لحركة المقاومة هذه. ولم يقدم الأعوان الذين عينتهم الحكومة للتفاوض مع المتظاهرين أي تنازلات، حيث كانوا يعتبرون عقد الخوصصة هذا صفقة تجارية وخطوة نحو الحداثة والتقدم والتكامل الدولي. وقد لاحظ خوسيه أورياس، نائب وزير بالحكومة، وهو من القلة التي تنحدر من كوتشابامبا، أن:

موظفي الدولة كانوا يتعاملون مع الوضع وكأنه عملية شراء أو بيع منزل وليس بالطريقة التي كان ينبغي أن يتعاملوا بها مع قضية الماء.

وبعد فشل الجولة الأولى من المفاوضات، رأى المسؤولون العموميون أنه يمكن احتواء الحركة باستعمال القوة. حيث تحولت المسيرة المنظمة يوم 4 فبراير بسرعة إلى مواجهة عنيفة لما حاولت قوات شرطة لاباز منع المتظاهرين من احتلال “ساحة 14 سبتمبر” التي تُعد المركز الرمزي لمدينة كوتشابامبا. وقد زاد استخدام القوة هذا من توسيع الفجوة بين الحكومة والسكان، فكانت النتيجة أن اتسع نطاق الحركة وأبدى قادتها عزيمتهم لمواصلة الكفاح.

كانت الحكومة تظن أنها ستوقفنا باستخدام القوة. لم يتمكنوا من فهم الدور الذي يلعبه الماء في خلق الديناميات المحلية… فمباشرة بعد تعرض الناس للقمع، نُسِجت علاقة تضامن إقليمي فيما بينهم.

أحد قادة الحركة

لم تستوعب الحكومة أهمية الماء بالنسبة لسكان المدينة، باعتباره جزءاً أساسياً من ثقافتهم وهويتهم. ولهذا فهي لم تدرك إمكانية حشد تعبئة واسعة النطاق رداً على عقد الخوصصة. وبعد أشهر من التعبئة الواسعة النطاق، اضطرت الحكومة إلى فسخ العقد مع اتحاد “أغواس ديل توناري”، حيث استعادت مصلحة البلدية المختصة “سيمابا” السيطرة على إدارة المياه.

الذرة، نقطة إجماع وطني

تُعد الذرة مكوناً أساسياً في الثقافة المكسيكية. فبالنسبة للعديد من المكسيكيين، ترمز الذرة إلى “المكسيك”؛ فهي متجذرة في فهمهم للحياة العائلية المكسيكية وتمثل أساساً لشعور الانتماء إلى المجتمع.

وقد دفع ارتفاع أسعار الذرة المكسيكيين إلى الخروج إلى شوارع العاصمة للمطالبة باستقرار الأسعار. حيث رددت الجماهير المؤلفة من المستهلكين والمنتجين والبرجوازيين والفلاحين الشعار ذاته: “بدون الذرة، لا وجود للدولة”. وسرعان ما قرر الرئيس فيليبي كالديرون، الذي انتُخب قبل شهر من ذلك إثر استحقاقات انتخابية مثيرة للجدل، أن يحدد سقف الأسعار، فتراجعت بذلك التعبئة الواسعة النطاق.

وإذا كان السياق السياسي قد أثر على نظرة إدارة كالديرون للخيارات المتاحة أمامها – حيث كان على إدارته أن تعطي الانطباع بأنها تستوعب مصالح ناخبيها وأنها على استعداد للاستجابة لها – فإن طريقة تعامله مع مظاهرات “تورتيلازو” تعزى بشكل خاص إلى كونه قد أدرك أن مسألة الذرة كانت تشغل المكسيكيين كافة، ما جعلها مسألة بالغة الأهمية. فبالنسبة للحكومة المكسيكية، أي تجاهل لهذه الحركة كان من شأنه أن يولد تعبئة عارمة في صفوف المواطنين.

ومنذ بداية الاحتجاجات، اقترح الفريق المساعد للرئيس استجابة سريعة نظراً لمدى حساسية مسألة الذرة بالنسبة للمكسيكيين، ولهذا تم تحريك العديد من إدارات الحكومة على الفور لإيجاد حل. وقد قال بعض المسؤولين:

لقد شعرنا جميعاً أنه كان علينا أن نتحرك فوراً، لأن عدم اتخاذ أي إجراء كان سيؤدي إلى كارثة.

وفي 18 يناير 2007، توصلت الحكومة إلى اتفاق بخصوص استقرار الأسعار مع ممثلي صناعة الذرة والموزعين ورئيس “الاتحاد الوطني للفلاحين”. وقد استغل المسؤولون الصلة الرمزية بين رغيف “التورتيلا” ومسألة “أن يكون المرء مكسيكياً” لضمان التزام الفاعلين الرئيسيين في القطاع بالاتفاق المبرم. وبما أن الموافقة كانت طوعية ولا تشمل تعويضاً للشركات، كان على مستشاري الرئيس كالديرون أن يقنعوهم بأن المشاركة في الاتفاق كانت من مصلحتهم. ويبدو أن الشركات قد أدركت أنها ستظهر بمظهر الخائن إن لم تلتزم بالاتفاق عن طيب خاطر، أو إن استمرت في رفع أسعار رغيف “التورتيلا”.

هذا وقد تعامل صناع القرار المكسيكيون مع الوضع بسرعة لأنهم أدركوا أن مسألة الذرة يمكن أن تؤدي إلى تعبئة واسعة النطاق في كافة أرجاء البلاد. وخلال اجتماع مطول بين المسؤولين في مركز الرئاسة (“لوس بينوس”)، استحضر البعض الثورة الفرنسية، حيث أقاموا علاقة واضحة بين رغيف “التورتيلا” والخبز.

بالنسبة للمكسيكيين، الذرة هي خبزنا. وإذا كانوا يقلقون بشأن الخبز في أوروبا، فإننا نقلق بشأن الذرة هنا.

وقد فقدت الحركة الاجتماعية تأثيرها بعد اتفاق استقرار الأسعار. ومع ذلك، خرجت مسيرة أعلنت عنها الحركة في 31 يناير، إلا أن المطالب التي رددتها الحركة من خلالها لم تكن لها نفس قوة التعبئة كسابقتها. في الواقع، أصبحت الأسئلة المطروحة ذات طبيعة تجريدية، وتمحورت حول التنديد بالنموذج الاقتصادي النيوليبيرالي وعدم الشفافية وما إلى ذلك. ومن جهتها، طمأنت الحكومة المواطنين بالتأكيد على أن  رغيف “التورتيلا” يحظى بالحماية التي يستحقها، متمكنة في آخر المطاف من إقناع العديد من الأشخاص الذين كانوا مستنفرين حتى ذلك الحين.

وقد تمت دعوة كافة المنظمات الكبرى، التي كانت تنادي إلى المشاركة في المسيرة، إلى جلسات كانت تجرى “بانتظام” مع مختلف المسؤولين الحكوميين. فتراجع المتظاهرون شيئاً فشيئاً ولكن استمرت المناقشات ولعبت اللقاءات دور الرابط – رغم هشاشته – بين الإدارة والمجتمع المدني المنظَّم. فمن خلال إحضار المعارضة بسرعة إلى طاولة المفاوضات، تمكن صناع القرار من تقويض أي دينامية كان يمكن أن تتولد عن مسيرة 31 يناير.

لمعرفة المزيد

Comparative Political Studies, 2018. DOI: 10.1177/0010414018806532