الاعتماد على المظاهرات لمعارضة نظام استبدادي أو سلطة قائمة، أسلوب معروف ومدروس. لكن كيف يمكن تفسير أصل ودور المظاهرات المؤيدة للأنظمة الاستبدادية؟
يعتبر هذا السؤال بالغ الأهمية. فبينما يتفق الكثيرون على أن إرادة الشعب هي أصل حركات التعبئة السياسية، يبين الباحثان في هذه الورقة أن دور الدولة في الأنظمة الاستبدادية يحتل موقعاً مركزياً في تفسير نشأة حركات التعبئة الموالية لها.
إذ يدرس الباحثان طريقة لجوء السلطة السياسية بشكل استراتيجي إلى تنظيم مظاهرات مؤيدة لها. هذه الاستراتيجيات هي استجابة لوضع سياسي غير مستقر تخشى فيه الدولة التشكيك في مشروعيتها وسلطتها.
وقد استند الباحثان لإجراء بحثهما على قاعدة البيانات الخاصة بالتعبئة الجماهيرية في الأنظمة الاستبدادية وهي أول قاعدة بيانات تسجل كافة المظاهرات المؤيدة للحكومة التي شهدتها أنظمة تعتبر استبدادية، أي التي يسيطر فيها شخص واحد على السلطة السياسية، وذلك خلال الفترة ما بين 2003 و2015، كما تجمع قاعدة البيانات معلومات متنوعة حول حجم المظاهرات وأحداث العنف خلال هذه التجمعات. وانطلاقاً من هذه البيانات، قام الباحثان بإجراء اختبارات إحصائية تسمح لهما بتوضيح الوضع.
آثار وانعكاسات التعبئة المؤيدة للحكومة على مختلف الطبقات الاجتماعية
يرى الباحثان أن تنظيم مظاهرة مؤيدة للحكومة يسمح للدولة بتقويض قدرات التعبئة لدى ثلاث مجموعات وهي: النخب والجمهور وقوى المعارضة.
ففي المقام الأول، تمثل التجمعات المؤيدة للحكومة وسيلة لتعزيز التماسك بين النخب، سواء كانت حاكمة أو لم تكن كذلك، وتقلص بذلك احتمال حدوث انقلاب على النظام. فمن خلال إظهارها للنظام بمظهر القوي، ترسخ حركات التعبئة فكرة صعوبة إسقاطه. وبالتالي، فإن عناصر النخبة الذين كانوا يرغبون في سقوط النظام يفقدون الدافع للتحرك.
أما فيما يتعلق بالجمهور، فالوضع لا يختلف عن النخب. فمظهر القوي الذي تعكسه المظاهرات المؤيدة للنظام يثني المواطنين المترددين عن الخوض في الاحتجاجات لأنهم يرون أن هذه التعبئة ستبوء لا محالة بالفشل.
كما تتأثر قوى المعارضة من نواح متعددة، فعندما تتزامن المظاهرات المؤيدة للنظام مع الاحتجاجات التي تنظمها، يتزايد الخطر المرتبط بالتظاهر. إذ يتضاعف احتمال تحول المظاهرات إلى مواجهات عنيفة بين المعسكرين المتنافسين. ومن ناحية أخرى، قد تستخدم الدولة تزامن المظاهرات المؤيدة للنظام والمعارضة له كتبرير لسماحها لقوات الأمن بالتدخل العنيف، حيث يبدو قمع حركة معارضة عند اندلاع أعمال العنف أثناء المظاهرات أكثر شرعية من قمعها عندما يكون الاحتجاج سلمياً. وأخيراً، تنظم المظاهرات المؤيدة للنظام في أغلب الأحيان في أماكن استراتيجية وذات دلالة رمزية كبيرة بالنسبة للمعارضة، وهو الأمر الذي يحد من القوة الرمزية لمظاهرات المجموعات المعارضة وحجمها.
هل ما زال للنظام مصلحة في المظاهرات الداعمة له؟
لكن اعتماد المظاهرات المؤيدة للحكومة لا يجب أن يعتبر أسلوبا مضمونا. فإذا كانت تسمح للنظام باستظهار قوته وثثتني في نفس الوقت احتجاجات النخب وقوى المعارضة إضافة الى المترددين (يقال حينها أن المظاهرات الموالية للحكومة تزيد من التكلفة المرتبطة بالعمل الجماعي المعارضة) ، فلها جوانب ضارة/مضرة أيضا. مثل تكلفتها التنظيمية الجد مرتفعة، اذ تستوجب على النظام القيام بتقييم دقيق لتحديد من يمكنه دعمه، كما يمكن أن تؤدي الى صراعات/تصادمات بين مؤيدي وعارضي الحكومة قد تنتهي بفقدان الدولة السيطرة على الأحداث. لهذه الأسباب المختلفة، فإن تنظيم الاحتجاجات المؤيدة للحكومة ليست دائمًا الطريقة التي تفضلها الأنظمة الاستبدادية.
يشير الباحثان إلى وجود ثلاث سلبيات رئيسية لهذه الممارسات بالنسبة للدولة، وهي مخاطر يجب على هذه الأخيرة مراعاتها قبل اتخاذ القرار بشأن ما إذا كانت استراتيجية المظاهرات المؤيدة للنظام التي ترغب في تنفيذها مناسبة.
وتعد تكلفة التعبئة أول المشاكل التي يجب أخذها بعين الاعتبار. فهل باستطاعة الدولة تحديد المجموعات التي يحتمل أن تساندها؟ من أجل التصدي لهذا المشكل، تلجأ الدولة إلى الدعاية، أو إلى استهداف فئة المواطنين الذين يعولون على النظام، من قبيل الموظفين الحكوميين، أو إلى منح المكافآت.
أما المشكل الثاني فيتجلى في تكلفة التنظيم. فهل النظام قادر على أن يفرض على مؤيديه احترام التنظيم الذي يضعه؟ السؤال المطروح هنا هو معرفة ما إذا كان النظام قادرا على احتواء عنف المظاهرات في مستوى معين، بحيث يتم تثبيط المعارضة، دون أن تخرج أعمال العنف عن السيطرة. ويمكن للمرء أن يتصور أن النظام الذي يفتقر للقوة القسرية سوف يتحمل تكلفة أكبر جراء التعبئة، بحيث أنه لا يملك الموارد والموظفين لضمان حفظ النظام.
وأخيراً، يجب كذلك أخد تكلفة الحد من التعبئة بالحسبان. فإلى أي حد سيكون بمقدور النظام مكافأة الذين ساندوه على ولائهم؟ هنا سينصب التركيز على قدرات الدولة على الاستمالة، لاسيما إمكانية الوصول إلى المناصب المرموقة التي تقدمها لقادة المجموعات المؤيدة للنظام.
وأخيرا، نظراً إلى التكلفة الباهظة للمظاهرات المؤيدة للحكومة، يبدو أنه ليس لأصحاب السلطة مصلحة في تنظيمها إلا في اللحظات الحاسمة. ويعد تحديد هذه اللحظات، وغيرها من الأمور، موضوع العديد من التحليلات الإحصائية التي قام بها الباحثان.
لمحة أولية عن حركات التعبئة المؤيدة للنظام
من خلال تحليلات إحصائية بسيطة لقاعدة بياناتهما، تبين للباحثين أن ما يناهز ثلث المظاهرات المؤيدة للحكومة كانت تهدف أساساً إلى تشكيل تعبئة مضادة. حيث إنه في ثلث الحالات، تنظم المظاهرات الموالية للنظام في نفس الزمان والمكان اللذان تقام فيهما مظاهرات معارضة له.
علاوة على ذلك، يبين الباحثان أنه في الوقت الذي يتعرض فيه الناشطون المؤيدون للنظام لعدد أقل من الاعتقالات العنيفة مقارنة بالمعارضين السياسيين، فإن المظاهرات المؤيدة للنظام تسفر بالمقابل عن إصابات عديدة في صفوف المتظاهرين والمعارضين والشرطة. وإذا كان هذا الأمر يبدو غير منطقي للوهلة الأولى، فإن الباحثان يبرزان سبيين لهذا الوضع. فالقادة السياسيون أنفسهم يشجعون أعمال العنف ضد المعارضين خلال المظاهرات المؤيدة للنظام. إضافة إلى ذلك، يمكن للدولة أن تلجأ إلى مزيد من المظاهرات المؤيدة للنظام عندما يكون بقاؤها على المحك، ما من شأنه أن يزيد من تأجيج المشاعر.
أخيراً، يُلاحَظ من خلال حساب المعدلات أن المظاهرات المؤيدة للحكومة تجري أكثر في الأنظمة ذات الحزب الواحد وكذا الأنظمة العسكرية. ولكن بصفة عامة، كلما زادت سلطوية النظام، ارتفع عدد المظاهرات المؤيدة له. وتحتل كل من روسيا وهايتي وإيران وسوريا وكوبا الرتب الخمس الأولى للبلدان التي عرفت أكبر معدل للمظاهرات المؤيدة للنظام في الشهر خلال الفترة الممتدة ما بين 2003 و2015 (بمعدل 3 مظاهرات شهرياً في روسيا).
ما هو السياق الخاص الذي تظهر فيه حركات التعبئة المؤيدة للحكومة؟
تمكن التحليلات الإحصائية الأكثر تفصيلاً الباحثين من تحديد التوقيت الذي تجري فيه المظاهرات المؤيدة للحكومة، أي السياق الخاص الذي يكون مواتياً لحدوثها.
وقد ثبت أولاً أن وتيرة المظاهرات ترتفع في الأوقات التي تزداد فيها حركات المعارضة، حيث إن حدوث عشر مظاهرات إضافية خلال شهر ما، يؤدي إلى ارتفاع في معدل المظاهرات المؤيدة للنظام بنسبة 14% في الشهر الموالي. وينطبق الأمر ذاته عندما تتسبب مظاهرات معارضة للنظام في إثارة البلدان المجاورة للبلد المعني.
إضافة إلى ذلك، تمت ملاحظة عدد أكبر من حركات التعبئة المؤيدة للنظام خلال فترة ما قبل الانتخابات أو الفترة التي تسبق محاولة انقلاب ]إحالة إلى الشكل الوارد أسفله[. وتحتم هذه الحالات التي يتم فيها التشكيك في مشروعية السلطة الحاكمة على الدولة أن تقوم بالرد حتى تحكم قبضتها على السلطة، وهذا يفسر الفائض في حركات التعبئة المؤيدة للحكومة. ومع ذلك تنخفض وتيرة حركات التعبئة المؤيدة للنظام بعد مرور الانتخابات أو محاولة انقلاب، الأمر الذي يمكن تفسيره من خلال الموقف الذي يتخذه النظام الاستبدادي: حيث تخول له شرعيته بعد الفوز في الانتخابات أو إفشال محاولة انقلاب ضده اللجوء إلى القمع المباشر ضد معارضيه دون التأثير على المصداقية التي أحرزها حديثاً.
أخيراً، من المرجح أيضاً أن تحدث المظاهرات المؤيدة للنظام عندما يكون قائد النظام قد شغل ذلك المنصب لمدة طويلة أو عندما تقوم وسائل الإعلام بتغطية هامة لحركات المعارضة أو عقب حدوث هجمات إرهابية. إن هذه الحالات من شأنها أن تهز صورة النظام القوي، ما سيجعله أكثر عرضة للتهديدات.
وبالتالي، يؤكد الباحثان على أن أسباب حركات الموالاة للحكومة تصبح أوضح عندما يكون النظام في وضع هش مقارنة بالفترات التي يعرف فيها وضعاً مزدهراً.
خلاصة
يفسر هذا المقال نشوء حركات التعبئة المؤيدة للحكومات وكذا الدور الذي تلعبه في ترسيخ الأنظمة الحاكمة. حيث تمكِّن الحركات المؤيدة للنظام، كونها أداة تحت تصرف السلطة السياسية، من تعزيز صورة النظام وأيضاً من التقليل من التهديدات التي يمكن أن تشكلها مختلف قوى المعارضة ضده. ونظراً لكون هذا الأسلوب مكلفاً، فإنه لا يمكن توظيفه إلا لماماً من طرف الحكومة التي يتعين عليها بالتالي أن تدمجه مع أدوات قمعية تقليدية أخرى لإنفاذ القانون. وعليه، يتبين عموماً أن اللجوء إلى حركات التعبئة المؤيدة للحكومة يكون مقترناً بالفترات التي يكون فيها النظام هشاً وبالتالي أكثر عرضة للتهديدات.
لمعرفة المزيد
Comparative Political Studies , 2019. DOI: 10.1177/0010414019843559